تراجع قيادات الاحتلال عن مواصلة الحرب البرية وتوجه للتهدئة

بدأ الحديث في أروقة الدوائر العسكرية للكيان الصهيوني يتجه بقوة نحو إيقاف الحرب العدوانية على غزة بعد نحو أسبوعين على بدئها، وعدم الانزلاق إلى ما سمي بالمرحلة الثالثة في الحرب البرية، ويرتبط ذلك بانتقادات تزداد وتيرتها على ألسنة ضباط كبار في جيش الاحتلال وفي وسائل الإعلام لجهة غموض أهداف هذه الحرب، أو استحالة تحقيق أوضاع النهاية المرجوة منها صهيونيا، وبخلافات بين الثلاثي "أولمرت وباراك وليفني" حول سبل إنهائها، والترتيب للخروج من مأزقها بشكل يحفظ ماء وجوههم.

وعزا مراقبون هذا التحول في الموقف الصهيوني إلى الصمود الذي أبدته حركة حماس وفصائل المقاومة في التصدي للعدوان، وقدرتها على امتصاص ضربات قوات الاحتلال بخسائر محدودة في قوتها البشرية وأسلحتها وعتادها، والقدرة على التحمل التي أبداها أهالي غزة رغم وحشية العدوان وارتفاع حصاد مجازره في صفوف المدنيين، وحجم الدمار الذي خلفه، والظروف التي وصلت حد الكارثة الإنسانية، بسبب تدمير البنى التحتية للخدمات الأساسية، وغياب مقومات الحياة الضرورية.

موقف داخلي متماسك في غزة

وبعكس ما أرادته منشورات قوات الاحتلال الدعائية التي ألقيت من الجو، أو رسائله عبر الهواتف المتحركة، من تأليب الأهالي على حركة حماس، باعتبارها سبب ما يعانونه من حرب وحصار، وتهديدهم من مغبة مساعدة المقاومين والتغطية على تحركاتهم، ومراهنات الاحتلال على تحريك الشارع للانقلاب على الحركة في هذه الظروف الاستثنائية، فقد بدا الموقف الداخلي، سواء على مستوى مجمل الفصائل أو على المستوى الشعبي متماسكا وموحدا في مواجهة الحرب، ومتعاطفا مع المقاومة ومساندا لها، فضلا عن التنسيق الموجود بين الأذرع المسلحة لفصائل من خلال غرفة عمليات ميدانية مشتركة.

ومنذ يوم الأحد الماضي (4/1)، لم تخل صحيفة عبرية من مقالات عدة تطالب بوقف الحرب، ونشرت صحيفة "يديعوت" يوم (6/1) مقالا على صفحتها الأولى يدعو الى وقف القتال. ونشرت مقالات أخرى يوم (7/1) في جميع الصحف تعارض استمرار الحرب. وحذرت "هآرتس" من إضاعة فرصة زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وإعادته من دون نتيجة، على حد ما ورد فيها.

وحل غزة!

ودعت صحيفة "هآرتس" العبرية في مقال افتتاحي يوم (9/1) بعنوان "فلنخرج من غزة الآن" إلى انسحاب سريع وقالت إن الحديث عن توقيت ذلك وعن وقف إطلاق النار ترفٌ لا تستطيع إسرائيل تحمله، فتجربة الماضي تظهر أن عجلات الجيش كلما توغلت في وحل غزة (كما هو شأن لبنان)، ستترك وراءها مزيدا من القتلى وتعرض الجنود لخطر أكبر وتترك الجبهة الداخلية عارية، بينما المكاسب العسكرية في القطاع لا تزيد ولا تنقص.

أما "يديعوت أحرنوت" فدعت إلى ألا تعلق آمال عراض على الحرب التي يشنها كيانها، قائلة "حتى طائرات أف 16 لا تستطيع أن تدمر حركات مثل حماس.

وقالت في مقال افتتاحي اليوم بعنوان "فلنخفض سقف التوقعات من الحرب": إن كل ما يمكن تحقيقه نجاح تكتيكي، ووقفٌ لإطلاق النار "نعرف أنه مؤقت".

صلاة " أشكنازي"!

وبخلاف تهديداتها التي سبقت بداية الحرب والأيام الأولى منها فإن قيادات بارزة في جيش الاحتلال، بمن فيهم وزير الحرب الصهيوني، لم تعد متحمسة لاستمرار الحرب لاعتبارات مختلفة، أهمها الخوف من تطور الأمور على نحو تخرج فيه الأمور عن السيطرة، وتؤدي إلى انقلاب ما يسمى بالجبهة الداخلية في الدولة العبرية على تأييد الحرب. فقد كشفت مصادر عبرية أن رئيس أركان الجيش الصهيوني، غابي أشكنازي، يجد نفسه غير معني بتوسيع الحملة البرية وإدخال فرق الاحتياط إلى غزة. وذهب أحد المعلقين أبعد من ذلك حينما قال : إن أشكنازي يصلي من أجل وقف الحرب وعدم الدخول في المرحلة الثالثة (اجتياح قطاع غزة).

كما رأى عدد من المعلقين إن الدولة العبرية غير معنية أيضا بخطوة من هذا النوع إلا أنها تلوح بها للضغط على "حماس" وابتزاز تنازلات منها في اتفاقية تهدئة تريد إبرامها معها.
حتى"باراك" يعارض الحرب

وأوضحت صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية في عددها يوم (8/1) أن موقف وزير الحرب الصهيوني إيهود باراك يتلخص بأن الحملة العسكرية استنفذت، وأن حركة حماس برأيه تعرضت لضربة قوية وبات ممكنا التوصل إلى تسوية لوقف إطلاق النار، على حد مزاعمه، في حين تعارض وزيرة خارجية حكومة الاحتلال تسيبني ليفني إبرام أي اتفاق معها وتقترح وقفا أحادي الجانب لإطلاق النار، بحيث تعلن إسرائيل أنها سترد بقوة على أي خرق لوقف إطلاق النار.

وكشف المحللان الصهيونيان المعروفان ناحوم بارنيع وشيمعون شيفر، الأربعاء الماضي النقاب عن أن وزير الأمن الإسرائيلي يعارض في جلسات مغلقة مواصلة الحملة العسكرية على قطاع غزة، وأوضح المحللان أن الخلافات بين أولمرت وباراك بالنسبة للحملة العسكرية عميقة جداً، وأن باراك كان يريد المبادرة الفرنسية لتجنب العملية البرية الإسرائيلية في قطاع غزة.

أما موقف رئيس حكومة الاحتلال إيهود أولمرت من الحرب فيتلخص بتأييد استمرار العملية العسكرية الواسعة في القطاع في موازاة المفاوضات مع مصر حول المبادرة المصرية – الفرنسية لوقف إطلاق النار.

تشكيك الضباط الصهاينة

وكانت الصحافة العبرية وجهت منذ عدة أيام انتقادات حادة للحرب العدوانية على غزة وشككت في جدوى استمرارها، كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية يوم (8/1) عن وثيقة عسكرية تتضمن تشكيك ضباط صهاينة في قدرة جيش الاحتلال على تغير حكم حركة حماس في القطاع.

وقالت الصحيفة إن المداولات التي أجراها ضباط كبار في الجيش في اليوم التالي للعملية العسكرية العدوانية في قطاع غزة استنتجت أنه من المشكوك فيه أن يكون ممكنا إحداث تغيير السلطة في القطاع بواسطة استخدام القوة فقط.

وبينت "هآرتس" أن المصادر العسكرية الصهيونية تقر بوجود فجوة بين المصالح وبين القدرة على تحقيقها من خلال استخدام القوة فقط، لأن السيطرة المادية على القطاع أو أجزاء واسعة منه ستؤدي إلى تحميل إسرائيل مسؤولية كبيرة عن السكان في القطاع. على حد تعبيرها.

أهداف غامضة

وعلى نحو متصل؛ انتقد ريوفين بيداتزور، وهو خبير استراتيجي ومحلل سياسي صهيوني، النهج الذي اتبعته حكومة أولمرت في تنفيذ هجومها على غزة، منوها بعدم وضوح أهداف العملية العسكرية لجيش الاحتلال ضد غزة منذ البداية، إذ يرى أنه بدأ تحركاته العسكرية لتحقيق هدف غامض وهو "تغيير الوضع الأمني في غزة"، بحسب ما صرحت به الحكومة العبرية.

وأشار بيداتزور، وهو محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" العبرية في تحليل نشر في الصحيفة الخميس (8/1) إلى الأخطاء التي ارتكبها الصهاينة في الهجوم على غزة، من وجهة نظره، قائلاً "من الواضح أن الخطأ الاستراتيجي الرئيس الذي تم ارتكابه عند التخطيط للعملية العسكرية، هو اتخاذ القرار بالبدء من نقطة كان من الصعب على الجيش أن يحقق بعدها المزيد من التدمير، عما قامت به الضربات الجوية".

مضيفاً أنه "عندما تتم مهاجمة مائة هدف في أول هجمة، باستخدام عشرات الطائرات، فإنك إن لم ُتنه التحرك العسكري فورا، أو إن لم تستلم حماس، فإن جميع الهجمات الجوية اللاحقة تكون حتماً أكثر محدودية".

ويتابع "لقد دمرت القوات الجوية جميع أهدافها تقريباً، لذا بقيت المشكلة في التعرف على أهداف إضافية، يكون لتدميرها تأثير كبير على قرارات حماس".

وبحسب رأيه "عندما أدرك المخططون للقتال ما كان ينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية، وهو أن حكومة حماس لن ترفع الراية البيضاء بعد تدمير مائة من الأهداف الأولى، بات الاجتياح البري حتميا".

ويتابع "كان من المستحيل زيادة قسوة الهجمات الجوية عما كانت عليه بادئ الأمر، لذا كان لا بد من أن تبحث القوات الجوية عن أهداف جديدة، والتي لم تكن نوعية، كالتي دمرت بالفعل، في الوقت الذي يتم فيه ممارسة المزيد من الضغوط على الفلسطينيين، مع غياب وقف طلاق النار".

"حماس" والمقاومة غيرت المعادلة

وبحسب بيداتزور؛ فقد "خطط الجيش (الصهيوني) لمهاجمة المباني والمواقع التي يقطنها المئات من السكان، ولم ينذرهم بالرحيل بشكل مسبق، بل قصد قتل عدد كبير منهم ، ونجح في ذلك". معبرا عن خشيته من أن تتبنى إسرائيل لاحقاً سياسية (تعداد القتلى) Body Counts، التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الفيتناميين، بعد أن أدركت أنها لن تستطيع تدمير قوة الخصم أو دفعه نحو الاستسلام، لذا لجأت القوات الأمريكية في فيتنام (ستينيات القرن الماضي) إلى استخدام القوة المفرطة دون تمييز لزيادة أعداد القتلى في الجانب الآخر.

وقال الخبير الصهيوني بالصدد هذا "من المؤمل أن لا يقود استمرار القتال في قطاع غزة الجيش إلى تبني سياسة (تعداد القتلى) هنا أيضاً .. فموت المزيد من المئات من الفلسطينيين لن يؤدي بالضرورة إلى التوصل لترتيبات أفضل، خصوصاً في ضوء الضربات التي تقتل العديد من المدنيين، كما حدث في المدرسة التابعة للأمم المتحدة"، وفقاً لتقديره.

ووفقا لمراقبين؛ فإن مسارعة الدولة العبرية لوقف حربها العدوانية هي من باب "مكره أخوك لا بطل"، وتجنبا لخوض غمار تطورات جديدة قد ترتد عليهم ويلا وثبورا، فيما لو قرروا المضي قدما حتى المرحلة الثالثة من الحرب البرية، بعد أن سبر جيش الاحتلال قوة المقاومة الفلسطينية في المرحلة الأولى والثانية من هذه الحرب، على مدار أسبوع.

مواضيع ذات صلة



0 التعاليق: